الجمعة، 29 أغسطس 2025

قراءة في قصيدة الحروف لأحمد المجاطي

 

            قصيدة الحروف هي خاتمة ديوان الفروسية الذي قدمه الشاعر أحمد المجاطي في هيئة كتاب بمقدمة وفصول متناسقة وخاتمة، وخاتمة الكتاب عادة تلخص فصول الكتاب وتجمع ما تفرق فيها من خلاصات. ولم تخرج قصيدة الحروف عن هذه القاعدة، إذ قدم الشاعر لديوانه بقصيدة "الخوف" التي تؤطر وظيفة الكلمة ودورها في المجتمع، وأتبعها بمجموعة الفروسيةـ، وضمت سبع قصائد كلها مشرعة حول آمال الانتصار على الرغم من الكبوات. ثم أتبعها بمجموعة السقوط وتضم سبع قصائد، فمجموعة من كلام الأموات، وتضم قصيدتين، ثم ختم الديوان بقصيدة الحروف التي تختزل هذه المجموعات الثلاثة، فروسية فسقوط فكلام أموات.

              وإذا كان الديوان تتبع مسار التحرر والنضال في المدن العربية من الاحتجاجات إلى الهزيمة إلى انطفاء جذوته. فقصيدة الحروف تتبعت مسار الشعر العربي في صيرورته وعلاقته بحركات التحرر.

        يحدد الشاعر في بداية القصيدة علاقته بالكلمة الشعرية، ولم تكن هذه العلاقة لتشذ عن علاقة الشعراء العرب القدماء بها، فهو سليل المدرسة الزوهيرية الذي تتميز بنسج الحوليات، بما تقتضيه من بحث وتنقيح. وقد عبر الفرزدق عن ذلك بقوله: '' ان خلع ضرس أهون علي من قول بيت من الشعر في بعض الأوقات".

        يقيم الشاعر علاقة عاشقة مع الكلمة والعبارة الشعرية، تغمر عقله وقلبه معا، فيسكنها وتسكنه، ويرتقي بها إلى مستوى القدسية. يتصورها عاشقة ذات حمى يرغب في اقتحامه والسكن فيه، فهي دانية القطوف كناية عما تمتلكه من خصب لا ينضب، وهي كعبته التي ينبغي التقرب إليها بالطواف سبعا. تلك هي العبارة الشعرية كما يتصورها الشاعر، شاردة يراودها فارس الشعر بالطواف حولها سبعا، دانية القطوف كالشجرة المثمرة، لها حمى ينبغي اقتحامه والسكن فيه.

وأنا أُراوِدُ كلَّ شاردةٍ/ لأَسكنَ/ في حِماها،/ وأطوفُ سبعاً/ حولَ دانِيةِ القُطوفِ.

        بعد المراودة بالطواف تستجيب الحروف، تصهل صهيل ملاحم التأسيس في المشرق العربي التي تتسم باكتمال الرؤية ونضج البدائل. فالشعر يحمل رؤية ورسالة، وهي الأفق القومي التحرري. كما يحقق بدائل للقصيدة العمودية الموروثة. والصهيل والملاحم من صفات الفروسية. أولى مجموعات الديوان.

  تمطُّ ألسنَها الحروفُ /بِمَا تَشابَهَ/ من صَهيلِ مَلاحِمِ التَّأسِيسِ/ حيثُ الرُّؤْيةُ/ اكْتَملتْ/ وحَصحصتِ البَدائِلُ، في مَداها.

      لقد استعار الشاعر نسقا فروسيا في وصفه لعلاقته بالقصيدة، فالقصيدة كالمرأة الحسناء متمنعة محصنة، يصعب الوصول إليها، إلا بعد جهاد وصبر وأناةـ وتخطي العقبات التي تحول دون الوصول إليها بالمراودة والطواف سبعا حول كلماتها الشعرية وعباراتها الإبداعية، ولا تزيد إلا تمنعا وسخرية من عاشقها قبل أن تستسلم له. فهناك حمى وصهيل وملاحم ومدى وحصحصة الحق. واستجابة القصيدة بسلاسة الحروف التي تمد ألسنتها.

      فالشاعر إذا يؤسس تصورا للقصيدة المغربية المعاصرة لا يختلف عن القصيدة الأولى المؤسسة للحداثة العربية، ويراها ذات رؤية ناضجة مكتملة، وذات نسق بديل للقصيدة العمودية، هذا النسق البديل هو القصيدة المدورة المبنية على البحور السبعة الصافية، يقول الشاعر:

  وأنا أُراوِدُ/ كلَّ آبدةٍ/ أطوِّفُ ما أطوفُ.

    يعيد الشاعر المراودة المرة تلو المرة، يراود الشاردة والآبدة، يطوف حولها طواف العاشق كما العشاق، يقول أبو تمام .

              مَا رَبعُ مَيَّةَ مَعْمورًا يَطوفُ بهِ     غَيْلانُ أبْهى رُبًى منْ رَبعِها الخرِبِ  

بل قد يعود خائبا كما الحطيئة  

          أُطوِّفُ ما أطوفُ ثم آوِي              إلى بَيْتٍ قَعِيدَتُهُ لَكَاعِ

 يحاول الشاعر تجاوز الخيبة / ينادي صليل النقد في زمن القصيدة المدورة ليقوم بدوره، حتى لا تنتشر الخيبة وتدخل البحور السبع زمن الكسوف.

فيا صليلَ ملاحِمِ/ التَّفتِيشِ/ في زَمَنِ التَّفاعيلِ/ المُدوَّرةِ/ استَفِقْ/ واخلعْ نِعالَكَ/ قبلَ / أن تَلِجَ البُحورُ السَّبعُ/ دائرةَ الكُسوفْ.

    إن هذه الأسطر تحاكي الفصل الأول من الديوان الذي اختار له الشاعر عنوان الفروسية، فهناك إحساس بالنصر واكتمالٌ  للرؤية ونضج للبدائل، إلا أن ذلك لم يكتمل.

      في الأسطر الموالية يصف الشاعر ما يمكن أن يقع بعد دخول البحور السبع دائرة الكسوف

     نفطٌ/ على قمرٍ/ نهْدٌ/ على حَجَرٍ/ قيدٌ/ على مطرٍ/ وتَنهمِرُ الحُروفْ

    يرسم الشاعر صورة كاريكاتورية لدائرة الكسوف، فبعد أن كانت الحروف شاردة آبدة متمنعة محصنة، لا تستجيب إلا بالمراودة الملحة وبالفروسية الجامحة، ها هي تنهمر كالسيل العرم.

       لكن هذا السيل لا يحمل رؤية مكتملة، لا ولا يشكل بديلا، وإنما تمتمات وتراكم لا يستقيم، فما يجمع بين حروفه وكلماته هو ما يجمع بين النفط والقمر، وبين النهد والحجر، وبين القيد والمطر. إي لا شيء، مما يدل على العبثية.

    يستعير الشاعر الجمع بين ما لا يجمع للتعبير عن المرحلة الجديدة التي دخلتها الحروف، فعلاقة النفط   بالقمر، والنهد بالحجر، والقيد بالمطر علاقة تنافر، لكن الحروف الجديدة جمعت بين هذه المتباعدات المتنافرات دون هدف مقصود، فتولد عن ذلك عبث المعنى. ولم تعد الحروف تحتاج إلى مراودة أو طواف، فهي مطروحة في الطريق يغرف منه القاصي والداني، بلا إقامة وزن، أو تخير لفظ أو كثرة ماء، أو جودة سبك".. فعبر الشاعر عن ذلك بالانهمار. القصيدة التي كانت متمنعة محصنة لا يطلبها إلا فارس يدور حولها سبعا، صارت استسهالا وانهمارا جارفا.

فتولد عن هذا الانهمار حروف خمسة هي حصيلة  الشعر المعاصر:

    الحرف الأول ارتبط بالواقع السياسي لمرحلته وعبر عنها، وهو قصيدة الستينيات وبداية السبعينيات، تلك القصيدة التي عبرت عن مرحلة المد اليساري في المغرب وحركاته التحررية وشعاراته الجماهيرية، يقول الشاعر :

حرفٌ توهَّجَ/ والتَهبْ/ صبَّ السَّليقَةَ/ في الغَضبْ/ وأقام في المَابَيْنِ/ لا لِلسَّيْفِ/ كانَ/ ولاَ الضَّحِيهْ/ يَمتدُّ خيطاً/ مِن حِوار/ بينَ السُّقوطِ/ والانْتِظارِ

       يتميز هذا الاتجاه بتوهجه والتهابه وغضبه، فواكب حركات التحرر الجماهيرية العربية، ومارس فروسية الشعر، وحرر القصيدة من الشكل العمود، وطرح بديلا يتميز بالتعبير عن الانكسار والحلم أو ما عبر عنه النقد بالسقوط والانتظار.

   الحرف الثاني: وهو الحرف الذي نظَّر للشعر، وكتب البيانات، ورفع نظريا من قيمة ما يكتب إلا أن ما حققه إبداعيا أقل مما كان يحلم به فبدأ الكسوف، وعبر عنه الشاعر بتشابك النوايا بالعطايا فيه واغتنت الشكوك في ما قدم من نصوص

           حرفٌ تَشابكت النَّوايَا/ بِالعَطايا/ فِيهِ، واغْتَنتِ الشكوكْ.

الحرف الثالث: رفع هذا الاتجاه شعار التجاوز والتخطي من أجل خلق بديل، لكن سرعان ما توقف ونسي الإبداع ليتحول إلى المتاجرة بالشعر.

             حرفٌ تَجاوزَ/ ثُمَّ أقعى/ عندَ منعطفِ الطَّريقِ/ إلى البُنوكْ.

وتحاكي هذه الحروف الثلاثة فصل السقوط سقوط الشعر من فروسيته ووظيفته.

  الحرف الرابع: يتميز هذا الحرف باستسهال الكتابة فصارت النصوص عَيَّةً مبتذلة غير واضحة الرؤية فضاع الإبداع. وقد وظف الشاعر الكثير من الرموز العربية للدلالة على الرداءة والاستسهال، فباقل يضرب به المثل في العي، كناية على ما يعتري هذه النصوص من تمحل في العبارة، وتعقيد في النظم، وعبر ببرج بابل عن الغموض الذي أدخل الكتابة الشعرية في اللامعنى واللافهم. كما استعار للركاكة أبيات بشار عن ربابة ربة البيت.

حرفٌ توسَّمَ/ في ازْرِقاقِ البَحْرِ/ مِحبرةً/ وفي الشَّجر المُسافِرِ/ في شُقوقِ الغَيمِ/ أقلاماً/ فأَدخَلَ في مَراسيمِ الكِتابةِ/ عِيَّ باقِلِ/ بُرْجَ بابلِ/ نكهةَ الزَّيتِ/ المُخلَّلِ/ من أنامِلِها/ إذا ابْتَسمتْ رَبابهْ/ بالتَّمتماتِ/ وبالتَّوابلِ / فكَّ أُحْجِيةَ المَرايا/ وأَصابَ خاصِرةَ/ الفُؤادْ/ هو مَرَّةً/ قُفلٌ/ وآوِنةً/ سَحابَهْ/ وبِهِ اغْتَنتْ/ كَلماتُ رَبِّكَ/ في خَصاصَتِها/ وأَدْركَها النَّفادْ.

الحرف الخامس:

حرفٌ يطيرُ/ إلى الْوَراءْ/ لَفظَتهُ آلهةُ الثَّمانِياتِ/ فانْتعلَ الْهواءَ/ وعَدَّ عَكْساً/ ما تَواتَرَ/ مِن سُلالاتِ الدَّقائِقِ/ فاسْتَوَى نهراً/ بِبابِ الْخمسِ والسِّتِّينَ/ يَسقطُ تارةً/ ويَقومُ/ تَارهْ/ مَزَجَ السُّلافَةَ/ بِالعِبارَةِ/ رَشَّ أرصفةَ البَيوتْ / ورأى الثَّمانيناتِ/ قاموساً تَدلَّى/ خَلْفَ مِكْنَسةٍ/وأَمعنَ

في السُّكوتْ.

    هذا الحرف انتعل الهواء كناية عن انفصاله عن واقعه، ورفض شعر الستينيات التي ارتبط بواقعه وعبر عنه. لكن الشاعر وليد هذا الواقع الملتصق به رأى ما رأى فامعن في الصمت.

   وقد وقف الشاعر عند قصيدة الستينيات مدافعا عن خصوصياتها ومميزاتها الأسلوبية وارتباطها بحركات التحرر العربي قبل أن تقتحمها السبع الخطايا، إشارة إلى الخطايا السبع المسيحية التي تدفع الإنسان للقيام بكل ما هو غير أخلاقي وهي الغرور والكبرياء والشهوة والحسد والشراهة والغضب والكسل، وهذه الخطايا إذا تأملنا الحروف المنهمرة نجدها ملتصقة بها، أما قصيدة الستينيات فهي بالنسبة للشاعر نارا يهتدى بهديها، تؤدي وظيفتها التحررية. ويختم الشاعر القصيدة متسائلا: أوظيفته مد الجسور مع الأسلاف الأبطال ثورة الريف وخيل طارق وجيش عقبة أم التعبير عن السقوط والهزيمة التي لحقت بها. 

هِيَ كِلمةٌ خَفَقَتْ/ بسبعةِ أَحرفٍ/ وأَجازها الدَّمُ/ قبلَ أن تَفْتَضَّها/ السَّبعُ الْخطايا/ وأنا الذي آنسْتُها/ ناراً/ وجدَّلتُ السَّرايا/ عَبرَ أَحرفِها/ لِتَقْتحِمَ السَّرايا/ أَأَقول جِئتُ أمُدُّ جَسراً/ مِن جبالِ الرِّيفِ/ جِئتُ بِخيلٍ طارقْ/ وعقدتُ ألوِيةَ الرِّفَاقِ/ وَراءَ عُقبةَ/ أمْ أَتيتُ أعلِّمُ الفُرسانَ/ كيف تَغَصُّ بالدَّمعِ/ البَنَادِقْ.

تختزل قصيدة الحروف  اتجاهات الشعر المغربي المعاصر في زمنه القصير بين الستينيات والثمانينيات، بدأ الشعر الحديث ملتصقا بواقعه معبرا عنه محافظا على جزالته ولغته السامية ـ وانتهى منفصلا عنه مستسهلا الكتابة بعيدا عن الشعرية قريبا من النثرية.  

 

 

       قصيدة الحروف /أحمد المجاطي

وأنا أُراوِدُ كلَّ شاردةٍ

لأَسكنَ

في حِماها،

وأطوفُ سبعاً

حولَ دانِيةِ القُطوفِ

تمطُّ ألسنُها الحروفُ

بِمَا تَشابَهَ

من صَهيلِ مَلاحِمِ التَّأسِيسِ

حيثُ الرُّؤْيةُ

اكْتَملتْ

وحَصحصتِ البَدائِلُ

في مَداها

وأنا أُراوِدُ

كلَّ آبدةٍ

أطوِّفُ ما أطوفُ،

فيا صليلَ ملاحِمِ

التَّفتِيشِ

في زَمَنِ التَّفاعيلِ

المُدوَّرةِ

استَفِقْ

واخلعْ نِعالَكَ

قبلَ

أن تَلِجَ البُحورُ السَّبعُ

دائرةَ الكُسوفْ

نفطٌ

على قمرٍ

نهْدٌ

على حَجَرٍ

قيدٌ

على مطرٍ

وتَنهمِرُ الحُروفْ

حرفٌ توهَّجَ

والتَهبْ

صبَّ السَّليقَةَ

في الغَضبْ

وأقام في المَابَيْنِ

لا لِلسَّيْفِ

كانَ

ولاَ الضَّحِيهْ

يَمتدُّ خيطاً

مِن حِوار

بينَ السُّقوطِ

والانْتِظارِ

وعبرَ بَلْقَنَةِ

القَضِيهْ

حرفٌ تَشابكت النَّوايَا

بِالعَطايا

فِيهِ

واغْتَنتِ الشكوكْ

حرفٌ تَجاوزَ

ثُمَّ أقعى

عندَ منعطفِ الطَّريقِ

إلى البُنوكْ

حرفٌ توسَّمَ

في ازْرِقاقِ البَحْرِ

مِحبرةً

وفي الشَّجر المُسافِرِ

في شُقوقِ الغَيمِ

أقلاماً

 

فأَدخَلَ في مَراسيمِ الكِتابةِ

عِيَّ باقِلِ

بُرْجَ بابلِ

نكهةَ الزَّيتِ

المُخلَّلِ

من أنامِلِها

إذا ابْتَسمتْ رَبابهْ

بالتَّمتماتِ

وبالتَّوابلِ

فكَّ أُحْجِيةَ المَرايا

وأَصابَ خاصِرةَ

الفُؤادْ

 

هو مَرَّةً

قُفلٌ

وآوِنةً

سَحابَهْ

وبِهِ اغْتَنتْ

كَلماتُ رَبِّكَ

في خَصاصَتِها

وأَدْركَها النَّفادْ

حرفٌ يطيرُ

إلى الْوَراءْ

لَفظَتهُ آلهةُ الثَّمانِياتِ

فانْتعلَ الْهواءَ

وعَدَّ عَكْساً

ما تَواتَرَ

مِن سُلالاتِ الدَّقائِقِ

فاسْتَوَى نهراً

بِبابِ الْخمسِ والسِّتِّينَ

يَسقطُ تارةً

ويَقومُ

تَارهْ

مَزَجَ السُّلافَةَ

بِالعِبارَةِ

رَشَّ أرصفةَ البَيوتْ

ورأى الثَّمانيناتِ

قاموساً تَدلَّى

خَلْفَ مِكْنَسةٍ

وأَمعنَ

في السُّكوتْ

هِيَ كِلمةٌ خَفَقَتْ

بسبعةِ أَحرفٍ

وأَجازها الدَّمُ

قبلَ أن تَفْتَضَّها

السَّبعُ الْخطايا

وأنا الذي آنسْتُها

ناراً

وجدَّلتُ السَّرايا

عَبرَ أَحرفِها

لِتَقْتحِمَ السَّرايا

أَأَقول جِئتُ أمُدُّ جَسراً

مِن جبالِ الرِّيفِ

جِئتُ بِخيلٍ طارقْ

وعقدتُ ألوِيةَ الرِّفَاقِ

وَراءَ عُقبةَ

أمْ أَتيتُ أعلِّمُ الفُرسانَ

كيف تَغَصُّ بالدَّمعِ

البَنَادِقْ

 

 


الأربعاء، 29 يناير 2025

قراءة في قصيدة "وراء أسوار دمشق" لأحمد المجاطي

 

استهلال 

إنَّك حينَ تفتحُ ذراعيكَ لتستقبل الحياة
تكون قد رسمت خلفك علامة الصليب
لويس أرغون
وقال البارودي: بعد أن اضطرب زمناً، بين أرض المنفى وارض المعاد:
«وكما أن دمشق لا تكون، دوما، دمشق البعث ودمشق الثورة، فكذلك البانة، لا تبقى واحدة البان، فقد تصبح رمحا وقد تصبح عصا، غير أنها ربما أصبحت حية تسعى»

 

 

وحِينَ تَجلَّتْ
وحينَ تمازَجتِ الرِّيحُ والْخَمرُ فيها
وأَمستْ وِلادةَ حرفٍ
وفَرْحةَ  بَدْءٍ
وفجرَ قصيدهْ
وأَمستْ دِمشقَ العقيدهْ
وحينَ تَجرَّدتَ فيها
فأمسيتَ بحراً
وغيماً
ونَوْءاً


وأمسيتَ كلاًّ
وجُزءَا

لماذا تَوارتْ عَنِ الْقلبِ
حتَّى تفجَّرَ سِرُّ النَّواةِ
وأُلْقيتَ في سَرندِيبَ الْقَصِيَّهْ
وقيلَ نسوكْ
فما أنتَ فيهِمْ سؤالٌ
على وَترٍ من رَبابِ
ولا بيتُ شعرٍ على هامشٍ
من كتابِ

ولا نَقشوا اسْمكَ
حتَّى على شاطِئِ اللاَّذِقِيَّهْ
***
وتَبحثُ عن غُوطةِ الغَربِ
في كلِّ ملهىً وفي كل حانَهْ
وفي كلِّ دربٍ تجوعُ البَنادِقُ فيهِ
وتَعْرَى
وفي كلِّ كأسٍ قرارَتُها
تاجُ كِسْرى
فيهدأُ من بردَى المَوْجُ والرِّيحُ تَهدأُ

 

 

حتى الطُّلولُ

ويعلو مع الصَّمتِ صوتٌ يقولُ:
دمشقُ على سفحِ قاسيون بَانَهْ
وشاهدُ قبرٍ جَفتهُ الْمَنونُ
دمشقُ تَخون ُ»
ويبحر بابُ دمشقَ
ومَلهَى الوَليدِ
وقصرُ هِشامْ
وتُبحرُ حتى قبورُ الشآمْ
وأنتَ على اللَّيلِ مُلقَى
يَغيمُ بأمطارِكَ السَّيفُ والحَرفُ
حتَّى تَعودَ الجروحُ دواةً
وتَغْدو الدَّواةُ
زجاجةَ خمرِ
ويخرجُ من كلِّ شيء
سواهُ
فسِيانِ أن يُثمرَ الحقلُ باناً
وأن يُثمرَ الحقلُ خِنجرَ غدرِ

 

ومنْفاكَ منفىً سحيقٌ
ولَكنَّهُ ملكوتُ
وإِنَّكَ حَيٌّ
وأنتَ تموتُ

وقِيلَ علا النَّقعُ والطَّعنُ
حتَّى كبا بِعُرابِي الجَوادُ
وقيلَ تَفَشَّغَ في سَرنْديبَ الجرادُ
وجفَّ بها الزَّرعُ
والضَّرعُ
والخمرةُ البابلِيَّهْ
ولم يبقَ إلاَّكَ
لِلْخيلِ واللَّيلِ
والكِلْمةِ المُستَحيلهْ

ولم يبقَ إلاَّكَ
يبعث من قُبَّةِ الموتِ فيها
دمشقَ القَتيلهْ
وأنتَ على كلِّ ضَربةِ فأسٍ
صَليبٌ

وكفٌّ مُجوَّفةٌ ومِدادُ
فمَن يكتبُ اليومَ
حتَّى على قَبضةٍ من دخانِ:
دمشقُ على متْنِ ظَبيةِ بانِ
تعودُ إلى شاطئ الأَطلَسِيِّ
تَمدُّ ظفائرها
تتجدَّدُ
تغدو وِلادةَ حرفٍ
وفرحةَ بدءٍ
وفَجْر حَقيقهْ
تَشُقُّ بأصبعها قُبَّةَ الْموتِ
تَرجعُ مَعشوقَةً
وَعَشيقهْ

 

         

        على خلاف كل قصائد الديوان ـ افتتح المجاطي قصيدة وراء أسوار دمشق بعتبتين عتبة للشاعر الفرنسي اليساري لويس أراغون، تؤكد أن إرادة الحياة لا تكون إلا بالتضحية. ففتح اليدين لاستقبال الحياة يقابله رسم علامة الصليب في الخلف. والصليب رمز التضحية في الثقافة المسيحية.

      العتبة الثانية لمحمود سامي البارودي الشاعر العربي الذي شارك في ثورة عرابي ونفي إلى مدينة سرنديب، تؤكد هذه العتبة التقلبات التي تسم الحياة، فالشيء قد ينقلب إلى ضده، فالبان الشجرة التي تستعار للجمال واستواء القد قد تصير رمحا أو عصا، وبمعجزة قد تصير حية تسعى، كذلك دمشق فتارة تكون دمشق العقيدة وتارة تتخلى عن عقيدتها لتمسي بدون عقيدة.

      توحي هاتان العتبتان بأن القصيدة "وراء أسوار دمشق" تؤرخ لسقوط آخر تجرعه الشاعر في دمشق كما تجرعه في قصائد سابقة.

      يصف الشاعر دمشق التي تعود عليها تاء التأنيث في بداية انتصاراتها بصفات أربع:

تجلت، تمازجت الريح والخمر فيها، أمست ولادة حرف وفرحة بدء وفجر قصيدة، أمست دمشق العقيدة، وهي صفات إيجابية تساير العتبة الأولى لأراغون، أي أن دمشق تفتح ذراعيها لتستقبل الحياة، فالتجلي وضوح وشفافية وعلامة تحقيق انتصار، والريح حركة نحو الأمام والخمر احتفال بهذه الحركة فكان التمازج، والولادة والفرحة والفجر بداية غد جديد، غد دمشق العقيدة.

       إن هذه الصورة التي رسمها الشاعر لدمشق انعكست على نفسيته وأخرجته من قلقه وتردده، فتجرد من شكوكه، فأمسى بحرا وغيما ونوءا، وكلها صفات مائية تبعث الحياة، فصار هو الكل وهو الجزء.  وبذلك تحقق الانسجام بين الذات وموضوعها، بين الشاعر وبين دمشق العقيدة.

      وكما أن استقبال الحياة مرهون برسم علامة الصليب من خلف، كذلك هذا التجلي والهيمنة متبوع بضده، بتواري دمشق عن القلب والنفي والإبعاد إلى سرنديب القصية، المكان المناقض لدمشق العقيدة. وسرنديب هي منفى البارودي، فهي أرض الغربة والنفي والحزن. وقد أتبعها الشاعر بنسيانه ونسيان اسمه :

 وقيلَ نسوكْ/ فما أنتَ فيهِمْ سؤالٌ/ على وَترٍ من رَبابِ/ ولا بيتُ شعرٍ على هامشٍ/ من كتابِ/ ولا نَقشوا اسْمكَ/ حتَّى على شاطِئِ اللاَّذِقِيَّهْ.

        إلا أن نسيان الشاعر ونفيه لم يمنعه من البحث عن غوطة الغرب الدمشقية، الأرض الخصبة المعطاءة في مكان النفي، مكان الهزيمة والانكسار أي في المكان البديل للواقع المهزوم،  يبحث عنها في كل ملهى وفي كل حانة وفي كل درب هيمن فيها صمت البنادق، وفي كل كأس تجعله يحلم بالمستحيل.

     إن هذه الفضاء البديل يجعل الشاعر يرى الواقع الدمشقي الجديد في حالته الجديدة، إذ لا ولادة ولا فرحة ولا فجر، فالهدوء والصمت سيد الموقف، لا ريح ولا موج، حتى سطح الماء من بردى النهر المتدفق الجاري صار هادئا، لا صوت يعلو إلا صوت الحقيقة المأساوية دمشق بانة، دمشق شاهد جفته المنون، دمشق تخون.

  تضيء العتبة الثانية لمحمود سامي البارودي هذه الصورة فدمشق بانة، البانة لا تبقى على حالة واحدة، فقد تكون رمحا وقد تكون عصا وقد تصير حية تسعى، وكذلك دمشق لم تعد دمشق الثورة دمشق البعث بل خانت وصارت حية تسعى.  فيتخيل الشاعر في ملهاه أمام كأسه تاريخ دمشق الأموية ماضيه وحاضره، زمانه ومكانه، حتى القبور، كل يرحل، يبحر إلى آخر البحر، والشاعر على الليل ملقى بلا إرادة ـ مطر بلا سيف ولا حرف حتى صارت الجروح دواة، والدواة زجاجة خمر.

  إن زجاجة الخمر هي ملاذ الشاعر بعد كل سقوط. الجروح دواة، لكن هذه الدواة صارت زجاجة خمر، وبذلك يفقد كل شيء معناه، ويخرج منه سواه. لا فرق أن يثمر الحقل بانا أو أن يثمر خنجر غدر. إن صورة البان المتحولة تتكرر وتهيمن فتتساوى مع خنجر الغدر.

     إن هروب الشاعر من الواقع إلى الحانة وإلى الكأس، وتحويل الجروح والدواة إلى زجاجة خمر، ليس هروبا إراديا ولا نهائيا، فصوره بالمنفى السحيق، هو نفسه سرنديب القصية، هو النسيان، لكنة ملكوت يبقيه حيا حتى وهو يموت.

      هذه الحياة تتجسد في أصوات يتردد صداها في دواخل الشاعر، ومتخيله، أولها صوت الخيانة الذي يصور دمشق على سفح قاسيون بانة، والصوت الثاني وهو صوت أمل يجعل من السقوط مجرد كبوة، فعلى الرغم من انتشار الفساد وجفاف الزرع والضرع  والخمرة البابلية، بقي الشاعر حيا قادرا على ركوب الليل والخيل والكلمة المستحيلة.

     إن بقاء الشاعر صوتا حيا يبقي الأمل في بعث دمشق القتيلة من قبة الموت ممسكا بقبضة فأسه راسما وراءه الصليب.

   لكن الشاعر يقف عند التمني والأمل باحثا عن فاعل يكتب أمله حتى على قبضة من دخان تتلاشى ولا تدوم:

 دمشق تعود إلى شاطئ الأطلسي تمد ظفائرها، تتجدد، تبعث من جديد، تغدو مرة أخرى ولادة حرف وفرحة بدء وفجر حقيقة، تمزق قبة الموت وتصبح معشوقة وعشيقة.

       على الرغم من أن القصيدة صنفت في مجموعة السقوط، فإنها تظل حبلى بالأمل، فبعد كل كبوة نهوض حينما يوجد الفارس الذي يحول الحلم الي حقيقية وفجر القصيدة إلى فجر حقيقة.

   الانساق الاستعارية في القصيدة،  بنى الشاعر أنساقه الاستعارية التي أغنت شعرية النص من رموز طبيعية اكتسبت غناها الدلالي من الثقافة الشعرية ومن سياقها الدلالي داخل النص. ومنها: الريح والخمر وشجر البان 

   استعار الشاعر من الريح حركتها وفعلها في الطبيعة فكان الشاعر بفعلها بحرا وغيما ونوءا، لكن سرعان ما هدأت وهدأ معها الموج وهدأت الطلول، فصار الشاعر منسيا منفيا ملقى على الليل. وبذلك فالريح في سياقها النصي رمز للتحول الإيجابي، رمز للحركة والإقدام.

الخمرة تمتزج مع الريح فتكون رمزا للفرح والاحتفال، فارتقت بمخيلة الشاعر ليصير كلا وجزءا، لكن سرعان ما جفت الخمرة البابلية.

   شجر البان، رمز الجمال والخضرة واستواء القد، وقد شبه الشاعر دمشق على سفح قاسيون بانة، لكن البانة لا تبقى على حالة واحدة، فقد تصير بفعل فاعل رمحا وقد تصير عصا وقد تصير حية تسعى، كذلك دمشق قد تكون دمشق البعث ودمشق الثورة، وقد تخون فتصير شاهدا جوفته المنون.  

    إن الخيانة ليست خيانة للثورة فقط، بل للتاريخ أيضا وبذلك يرحل عنها كل تاريخ الضام الأموي بل ترحل عنها حتى قبور الشام، وضوء النهار ويلقى الشاعر في منفاه السحيق.